في مجالساتنا بحثٌ دائم عن أحلامنا التي هُدمت. في حواراتنا تفتيشٌ دائم عن الهروب الذي أُجبرنا عليه.
ألا يحقّ لنا أن نعرفَ نحن شباب لبنان مَن هدم أحلامنا وجعل منها ركاماً؟ ألا يحق أن نعرف من جعلنا نلجأ إلى الهروب لا استسلاماً لواقعنا بل محبّة بالحياة؟
لا، لا يحقّ لنا، لا لأنّ الجواب على هذه الأسئلة صعب المنال بل لأن كلمة “الحقّ” لم تطأ يوماً عتبةَ ضمائرهم.
انفجار 4 آب لم يكن شرارةً، لم يوقظ في نفوسنا رغبة الرحيل، أيقظ فينا شعور اللاّرجوع. في أحاديثنا اليومية وداعٌ ودموع، ولكنْ في ذلك الوداع طمأنينة، وفي تلك الدموع فرح. البارحة كنّا نودّع الرّاحل بقلوبٍ مجروحة، اليوم لم يبقَ في القلوب أماكن تُجرح، فأصبح الأخ يوصل أخاه إلى المطار بأمل.
“ما تفلّ وتتركني…هون مش حإتركك”.
لم نعد نبحث عن هجرةٍ فرديّة، بل أصبح كل واحدٍ منّا يبحث عن ملجإٍ له، لأهله ورفاقه. أصبحنا نتخيّل أنفسنا مجتمعين في الاغتراب، لم يعد لبنان يصدّر أبناءه. أصبح يصدّر شوارعَه، بيوته، عاداته.
بات الأصدقاء يتخيلّون حياةً يترعرع فيها أولادهم سويّاً بعيدًا عما مرّوا به.
“فلّوا ونسونا، نحن ما بقى ياخدونا…”
من المبكي أن نرى أهلنا الذين مرّوا بالحرب الأهلية يرجوننا الرحيل، يرجوننا نسيانهم، لأن فُرَصَهُم اليوم بالتحرّر خمدت نيرانها. من المبكي أن نرى من صمد في أصعب المصائب ينكسر الآن. من المبكي أن نراهم والنّدم برتسم على وجوههم. السؤال عن مرتكبي هذه الجرائم النفسية، عن مخطّطي هذه الحرب المعنويّة فقد معناه مثلما فقدت المحاسبة عنوانها.